فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}.
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى مثل الكفار بالأبكم العاجز، ومثل نفسه بالذي يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم، ومعلوم أنه يمتنع أن يكون آمرًا بالعدل، وأن يكون على صراط مستقيم إلا إذا كان كاملًا في العلم والقدرة، وذكر في هذه الآية بيان كونه كاملًا في العلم والقدرة، أما بيان كمال العلم فهو قوله: {ولله غيب السموات والأرض} والمعنى: علم الله غيب السموات والأرض وأيضًا فقوله: {ولله غيب السموات والأرض} يفيد الحصر معناه: أن العلم بهذه الغيوب ليس إلا الله وأما بيان كمال القدرة فقوله: {وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب} والساعة هي الوقت الذي تقوم فيه القيامة سميت ساعة لأنها تفجأ الإنسان في ساعة فيموت الخلق بصيحة واحدة، وقوله: {إلا كلمح البصر} اللمح النظر بسرعة يقال لمحه ببصره لمحًا ولمحانًا، والمعنى: وما أمر قيام القيامة في السرعة إلا كطرف العين، والمراد منه تقرير كمال القدرة، وقوله: {أو هو أقرب} معناه أن لمح البصر عبارة عن انتقال الجسم المسمى بالطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها، ولا شك أن الحدقة مؤلفة من أجزاء لا تتجزأ، فلمح البصر عبارة عن المرور على جملة تلك الأجزاء التي منها تألف سطح الحدقة، ولا شك أن تلك الأجزاء كثيرة، والزمان الذي يحصل فيه لمح البصر مركب من آنات متعاقبة، والله تعالى قادر على إقامة القيامة في آن واحد من تلك الآنات فلهذا قال: {أو هو أقرب} إلا أنه لما كان أسرع الأحوال والحوادث في عقولنا وأفكارنا هو لمح البصر لا جرم ذكره.
ثم قال: {أو هو أقرب} تنبيهًا على ما ذكرناه، ولا شبهة في أنه ليس المراد طريقة الشك، بل المراد.
بل هو أقرب، وقال الزجاج: المراد به الإبهام عن المخاطبين أنه تعالى يأتي بالساعة إما بقدر لمح البصر أو بما هو أسرع.
قال القاضي: هذا لا يصح، لأن إقامة الساعة ليست حال تكليف حتى يقال إنه تعالى يأتي بها في زمان، بل الواجب أن يخلقها دفعة واحدة في وقت واحد، ويفارق ما ذكرناه في ابتداء خلق السموات والأرض لأن تلك الحال حال تكليف، فلم يمتنع أن يخلقهما كذلك لما فيه من مصحلة الملائكة.
واعلم أن هذا الاعتراض إنما يستقيم على مذهب القاضي، أما على قولنا في أنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فليس له قوة والله أعلم، ثم إنه تعالى عاد إلى الدلائل الدالة على وجود الصانع المختار فقال: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ حمزة والكسائي: {إمهاتكم} بكسر الهمزة، والباقون بضمها.
المسألة الثانية:
أمهاتكم أصله أماتكم، إلا أنه زيد الهاء فيه كما زيد في أراق فقيل: إهراق وشذت زيادتها في الواحدة في قوله:
أمهتي خندف واليأس أبي.. المسألة الثالثة:
الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خاليًا عن معرفة الأشياء.
ثم قال تعالى: {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} والمعنى: أن النفس الإنسانية لما كانت في أول الخلقة خالية عن المعارف والعلوم بالله، فالله أعطاه هذه الحواس ليستفيد بها المعارف والعلوم، وتمام الكلام في هذا الباب يستدعي مزيد تقرير فنقول: التصورات والتصديقات إما أن تكون كسبية، وإما أن تكون بديهية، والكسبيات إنما يمكن تحصيلها بواسطة تركيبات البديهيات، فلابد من سبق هذه العلوم البديهية، وحينئذ لسائل أن يسأل فيقول: هذه العلوم البديهية إما أن يقال إنها كانت حاصلة منذ خلقنا أو ما كانت حاصلة.
والأول باطل لأنا بالضرورة نعلم أنا حين كنا جنينًا في رحم الأم ما كنا نعرف أن النفي والإثبات لا يجتمعان، وما كنا نعرف أن الكل أعظم من الجزء.
وأما القسم الثاني: فإنه يقتضي أن هذه العلوم البديهية حصلت في نفوسنا بعد أنها ما كانت حاصلة، فحينئذ لا يمكن حصولها إلا بكسب وطلب، وكل ما كان كسبيًا فهو مسبق بعلوم أخرى، فهذه العلوم البديهية تصير كسبية، ويجب أن تكون مسبوقة بعلوم أخرى إلى غير نهاية، وكل ذلك محال، وهذا سؤال قوي مشكل.
وجوابه أن نقول: الحق أن هذه العلوم البديهية ما كانت حاصلة في نفوسنا.
ثم إنها حدثت وحصلت، أما قوله فيلزم أن تكون كسبية.
قلنا: هذه المقدمة ممنوعة، بل نقول: أنها إنما حدثت في نفوسنا بعد عدمها بواسطة إعانة الحواس التي هي السمع والبصر، وتقريره أن النفس كانت في مبدأ الخلقة خالية عن جميع العلوم إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر، فإذا أبصر الطفل شيئًا مرة بعد أخرى ارتسم في خياله ماهية ذلك المبصر، وكذلك إذا سمع شيئًا مرة بعد أخرى ارتسم في سمعه وخياله ماهية ذلك المسموع وكذا القول في سائر الحواس، فيصير حصول الحواس سببًا لحضور ماهيات المحسوسات في النفس والعقل ثم إن تلك الماهيات على قسمين: أحد القسمين: ما يكون نفس حضوره موجبًا تامًا في جزم الذهن بإسناد بعضها إلى بعض بالنفي أو الإثبات، مثل أنه إذا حضر في الذهن أن الواحد ما هو، وأن نصف الإثنين ما هو كان حضور هذين التصورين في الذهن علة تامة في جزم الذهن بأن الواحد محكوم عليه بأنه نصف الاثنين، وهذا القسم هو عين العلوم البديهية.
والقسم الثاني: ما لا يكون كذلك وهو العلوم النظرية، مثل أنه إذا حضر في الذهن أن الجسم ما هو وأن المحدث ما هو، فإن مجرد هذين التصورين في الذهن لا يكفي في جزم الذهن بأن الجسم محدث، بل لابد فيه من دليل منفصل وعلوم سابقة.
والحاصل: أن العلوم الكسبية إنما يمكن اكتسابها بواسطة العلوم البديهية، وحدوث هذه العلوم البديهية إنما كان عند حدوث تصور موضوعاتها وتصور محمولاتها.
وحدوث هذه التصورات إنما كان بسبب إعانة هذه الحواس على جزيئاتها، فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النفوس والعقول هو أنه تعالى أعطى هذه الحواس.
فلهذا السبب قال تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} ليصير حصول هذه الحواس سببًا لانتقال نفوسكم من الجهل إلى العلم بالطريق الذي ذكرناه، وهذه أبحاث شريفة عقلية محضة مدرجة في هذه الآيات.
وقال المفسرون: {وجعل لكم السمع} لتسمعوا مواعظ الله {والأبصار} لتبصروا دلائل الله، والأفئدة لتعقلوا عظمة الله، والأفئدة جمع فؤاد نحو أغربة وغراب.
قال الزجاح: ولم يجمع فؤاد على أكثر العدد، وما قيل فيه فئدان كما قيل: غراب وغربان.
وأقول: لعل الفؤاد إنما جمع على بناء جمع القلة تنبيهًا على أن السمع والبصر كثيران وأن الفؤاد قليل، لأن الفوائد إنما خلق للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية، وأكثر الخلق ليسوا كذلك بل يكونون مشغولين بالأفعال البهيمية والصفات السبعية، فكأن فؤادهم ليس بفؤاد، فلهذا السبب ذكر في جمعه صيغة جمع القلة.
فإن قيل: قوله تعالى: {وجعل لكم السمع والأبصار} عطف على قوله: {أخرجكم} وهذا يقتضي أن يكون جعل السمع والبصر متأخرًا عن الإخراج عن البطن، ومعلوم أنه ليس كذلك.
والجواب: أن حرف الواو لا يوجب الترتيب؛ وأيضًا إذا حملنا السمع على الاستماع والأبصار على الرؤية زال السؤال، والله أعلم.
أما قوله: {ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى:
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: {ألم تروا} بالتاء والباقون بالياء على الحكاية لمن تقدم ذكره من الكفار.
المسألة الثانية:
هذا دليل آخر على كمال قدرة الله تعالى وحكمته، فإنه لولا أنه تعالى خلق الطير خلقة معها يمكنه الطيران وخلق الجو خلقة معها يمكن الطيران فيه لما أمكن ذلك فإنه تعالى أعطى الطير جناحًا يبسطه مرة ويكسره أخرى مثل ما يعمله السابح في الماء، وخلق الهواء خلقة لطيفة رقيقة يسهل بسببها خرقه والنفاذ فيه، ولولا ذلك لما كان الطيران ممكنًا.
وأما قوله تعالى: {ما يمسكهن إلا الله} فالمعنى: أن جسد الطير جسم ثقيل، والجسم الثقيل يمتنع بقاؤه في الجو معلقًا من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه، فوجب أن يكون الممسك له في ذلك الجو هو الله تعالى، ثم من الظاهر أن بقاءه في الجو معلقًا فعله وحاصل باختياره، فثبت أن خالق فعل العبد هو الله تعالى.
قال القاضي: إنما أضاف الله تعالى هذا الإمساك إلى نفسه، لأنه تعالى هو الذي أعطى الآلات التي لأجلها يمكن الطير من تلك الأفعال، فلما كان تعالى هو المسبب لذلك لا جرم صحت هذه الإضافة إلى الله تعالى.
والجواب: أن هذا ترك للظاهر بغير دليل وأنه لا يجوز، لاسيما والدلائل العقلية دلت على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى.
ثم قال تعالى في آخر الآية: {إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} وخص هذه الآيات بالمؤمنين لأنهم هم المنتفعون بها وإن كانت هذه الآيات آيات لكل العقلاء، والله أعلم. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {ولله غيب السموات والأرض}.
يحتمل خمسة أوجه:
أحدها: ولله علم غيب السموات والأرض، لأنه المنفرد به دون خلقه.
الثاني: أن المراد بالغيب إيجاد المعدومات وإعدام الموجودات.
الثالث: يعني فعل ما كان وما يكون، وأما الكائن في الحال فمعلوم.
الرابع: أن غيب السماء الجزاء بالثواب العقاب، وغيب الأرض القضاء بالأرزاق والآجال.
{وما أمْرُ الساعة إلاَّ كلمح البصر أو هو أقرب} لأنه بمنزلة قوله: {كن فيكون} وإنما سماها ساعة لأنها جزء من يوم القيامة وأجزاء اليوم ساعاته، وذكر الكلبي ومقاتل: أن غيب السموات هو قيام الساعة.
قال مقاتل: وسبب نزولها أن كفار قريش سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قيام الساعة استهزاء بها، فأنزل الله تعالى هذه الآية. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله: {ولله غيب السماوات والأرض} الآية، أخبر الله تعالى أن الغيب له يملكه ويعلمه، وقوله: {وما أمر الساعة} آية إخبار بالقدرة وحجة على الكفار، والمعنى على ما قال قتادة وغيره: ما تكون الساعة وإقامتها في قدرة الله إلا أن يقول لها كن، فلو اتفق أن يقف على ذلك محصل من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هي كلمح البصر أو هي أقرب من ذلك، ف {أو} على هذا على بابها في الشك، وقيل هي للتخيير، ولمح البصر هو وقوعه على المرئي، وقوى هذا الإخبار بقوله: {إن الله على كل شيء قدير}، ومن قال: {وما أمر الساعة} له وما إتيانها ووقوعها بكم على جهة التخويف من حصولها ففيه بعد تجوز كثير، وبُعْد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كهاتين»، ومن ذكره ما ذكر من أشراط الساعة ومهلتها، ووجه التأويل أن القيامة لما كانت آتية ولابد جعلت من القرب {كلمح البصر} كما يقال: ما السنة إلا لحظة، إلا أن قوله: {أو هو أقرب} يرد أيضًا هذه المقالة، وقوله: {والله أخرجكم} الآية، آية تعديد نعمة بينة لا ينكرها عاقل، وهي نعمة معها كفرها وتصريفها في الإشراك بالذي وهبها، فالله عز وجل أخبر بأنه أخرج ابن آدم لا يعلم شيئًا، ثم جعل حواسه التي قد وهبها له في البطن سلمًا إلى درك المعارف، ليشكر على ذلك ويؤمن بالمنعم عليه، وأمهات أصله أمات، وزيدت الهاء مبالغة وتأكيدًا، كما زادوا الهاء في أهرقت الماء، قاله أبو إسحاق، وفي هذا المثل نظر وقول غير هذا، وقرأ حمزة والكسائي: {إمهاتكم} بكسر الهمزة، وقرأ الاعمش: {في بطون أمِّهاتكم} بحذف الهمزة وكسر الميم المشددة، وقرأ ابن أبي ليلى بحذف الهمزة وفتح الميم مشددة، قال أبو حاتم: حذف الهمزة ردي ولكن قراءة ابن أبي ليلى أصوب والترجي الذي في لعل هو بحسبنا، وهذه الآية تعديد نعم وموضع اعتبار، وقوله: {ألم تروا إلى الطير} الآية، وقرأ طلحة بن مصرف والأعمش وابن هرمز {ألم تروا} بالتاء، وقرأ أهل مكة والمدينة {ألم يروا} بالياء على الكناية عنهم، واختلف عن الحسن وعاصم وأبي عمرو وعيسى الثقفي، و{الجو} مسافة ما بين السماء والأرض، وقيل هو ما يلي الأرض منها، وما فوق ذلك هو اللوح، و{الآية} عبرة بينة تفسيرها تكلف بحت. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض}.
تقدّم معناه.
وهذا متصل بقوله: {إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} أي شرعُ التحليل والتحريم إنما يحسن ممن يحيط بالعواقب والمصالح وأنتم أيها المشركون لا تحيطون بها فلِمَ تتحكمون.
{وَمَا أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر} وتجازَوْن فيها بأعمالكم.
والساعة هي الوقت الذي تقوم فيه القيامة؛ سُميّت ساعةً لأنها تفجأ الناس في ساعة فيموت الخلق بصيحة.